فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفرع على {اصلوها} أمر للتسوية بين صبرهم على حرّها وبين عدم الصبر وهو الجزع لأن كليهما لا يخففان عنهم شيئًا من العذاب، ألا ترى أنهم يقولون: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيض} [إبراهيم: 21] لأن جُرمَهم عظيم لا مطمع في تخفيف جزائه.
و {سواء عليكم} خبر مبتدأ محذوف، تقديره: ذلك سواء عليكم.
وجملة {سواء عليكم} مؤكدة لجملة {فاصبروا أو لا تصبروا} فلذلك فصلت عنها ولم تعطف.
وجملة {إنما تجزون ما كنتم تعملون} تعليل لجملة {اصلوها} إذ كلمة {إنما} مركبة من (إنّ) و(ما) الكافة، فكما يصح التعليل بـ (إنّ) وحدها كذلك يصح التعليل بها مع (ما) الكافة، وعليه فجملتا {فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم} معترضتان بين جملة {اصلوها} والجملة الواقعة تعليلًا لها.
والحصر المستفاد من كلمة {إنما} قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن ما لقوه من العذاب ظلم لم يستوجبوا مثل ذلك من شدة ما ظهر عليهم من الفزع.
وعدي {تجزون} إلى {ما كنتم تعملون} بدون الباء خلافًا لقوله بعده {كلوا واشربوا هنيئًا بما كنتم تعملون} [الطور: 19] ليشمل القصر مفعول الفعل المقصور، أي تجزون مثل عملكم لا أكثر منه فينتفي الظلم عن مقدار الجزاء كما انتفى الظلم عن أصله، ولهذه الخصوصية لم يعلق معمول الفعل بالباء إذ جعل الجزاء بمنزلة نفس الفعل. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)}.
هذه مخلوقات أقسم الله بها تنبيهًا منها وتشريفًا، وليكون ذلك سبب النظر فيها والاعتبار بها، وذلك يؤول إلى التوحيد والمعرفة بحقوق الله.
{والطور} قال بعض أهل اللغة: كل جبل: طور، فكأنه أقسم بالجبال، إذ هو اسم جنس وقال آخرون: (الطور) كل جبل أجرد لا ينبت شجرًا. وقال مجاهد في كتاب الطبري: (الطور) الجبل بالسريانية، وهذا ضعيف، لأن ما حكاه في العربية يقضي على هذا، ولا خلاف أن في الشام جبلًا يسمى بـ(الطور)، وهو طور سيناء. وقال نوف البكالي: إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال. إذ قد روي أن الله تعالى أوحى إلىلجبال إني مهبط على أحدكم أمري. يريد رسالة موسى عليه السلام، فتطاولت كلها إلا الطور فإنه استكان لأمر الله وقال حسبي الله، فأهبط الله الأمر عليه. ويقال إنه بمدين. وقال مقاتل بن حيان هما طوران. والكتاب المسطور: معناه بإجماع: المكتوب أسطارًا.
واختلف الناس في هذا المكتوب المقسم به، فقال بعض المفسرين: هو الكتاب المنتسخ من اللوح المحفوظ للملائكة لتعرف منه ما تفعله وتصرفه في العالم.
وقال آخرون: بل أقسم الله تعالى بالقرآن، فإنه قد كان علم أنه يتخلد {في رق منثور}.
وقال آخرون: أقسم بالكتب القديمة المنزلة: الإنجيل والتوراة والزبور. وقال الفراء فيما حكى الرماني: أقسم بالصحف التي تعطى وتؤخذ يوم القيامة بالأيمان والشمائل. وقال قوم: أقسم بالكتاب الذي فيه أعمال الخلق، وهو الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وكتب بعض الناس، {مصطورًا} بالصاد. والقصد بذلك تشابه النطق بالحروف، والجمهور على السين. والرق: الورق المعدة للكتب وهي مرققة فلذلك سميت رقًا، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان. والمنثور: خلاف المطوي، وقد يحتمل أن يكون نشره بمعنى بشره وترقيقه وصنعته. وقرأ أبو السمال: {في رِق} بكسر الراء.
واختلف الناس في {البيت المعمور} فقال الحسن بن أبي الحسن البصري: هي الكعبة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وعكرمة: هو بيت في السماء يقال له الضراح، وهو بحيال الكعبة، ويقال الضريح، ذكر ذلك الطبري وهو الذي ذكر في حديث الإسراء. قال جبريل عليه السلام: هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم وبهذا عمارته. ويروى أنه في السماء السابعة. وقيل في السادسة وقيل إنه مقابل الكعبة لو خر لسقط عليها. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك. وهي كلها على خط مع الكعبة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {والسقف المرفوع}: السماء {والسقف} طول في انحناء، ومنه أسقف النصارى، ومنه السقف، لأن الجدار وسقفه فيهما طول في انحناء.
واختلف الناس في معنى: {المسجور} فقال مجاهد وشمر بن عطية معناه: الموقد نارًا. وروي أن البحر هو جهنم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليهودي: أين جهنم؟ فقال هي البحر، فقال علي: ما أظنه إلا صادقًا، وقرأ: {والبحر المسجور}، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن البحر طبق جهنم». قال الثعلبي: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يركبن البحر إلا حاج أو معتمر أو مجاهد فإن تحت البحر نارًا».
وفي حديث آخر: «فإن البحر نار في نار». وقال قتادة: {المسجور} المملوء. وهذا معروف في اللغة. ورجحه الطبري بوجود نار البحر كذلك، وإلى هذا يعود القول الأول لأن قولهم: سجرت التنور معناه: ملأتها بما يحترق ويتقد و: المملوء ماء، وهكذا هو معرض للعبرة، ومن هذا قول النمر بن تولب: المتقارب:
إذا شاء طالع مسجورة ** ترى حولها النبع والسماسما

سقتها رواعد من صي ** ف وإن من خريف فلن يعدما

يصف ثورًا أو عينًا مملوءة ماء، وقال ابن عباس: هو الذي ذهب ماؤه ف {المسجور}: الفارغ، ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة وقيل يوقد البحر نارًا يوم القيامة فذلك هو سجره. وقال ابن عباس أيضًا: {المسجور}: المحبوس، ومنه ساجور الكلب: وهو القلادة من عود أو حديد التي تمسكه، وكذلك لولا أن البحر يمسك لفاض على الأرض. وقال علي بن أبي طالب أيضًا وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: البحر المقسم به هو في السماء تحت العرش، والجمهور على أنه بحر الدنيا، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وإذا البحار سجرت} [التكوير: 6].
وقال منذر بن سعيد: إن المعنى هو القسم بجهنم وسماها بحرًا لسعتها وتموجها كما قال صلى الله عليه وسلم في الفرس: «وإن وجدناه لبحر» والقسم واقع على قوله: {إن عذاب ربك لواقع} ويريد عذاب الآخرة للكفار. قال قتادة: والعامل في: {يوم} (واقع) ويجوز أن يكون العامل فيه {دافع}، والأول أبين. وقال مكي: لا يعمل فيه {دافع}. و: {تمور} معناه: تذهب وتجيء بالرياح متقطعة متفتتة، والغبار الموار: الذي يجتمع ويذهب ويجيء بالريح، ثم هو كله إلى الذهاب، ومنه قول الأعرابي:
وغادرت التراب مورا

يصف سنة قحط. وأنشد معمر بن المثنى بيت الأعشى: البسيط:
مور السحابة لا ريث ولا عجل

أراد مضيها، وقال الضحاك: {تمور} تموج. وقال مجاهد: تدور. وقال ابن عباس: تشقق، وهذه كلها تفاسير بالمعنى، لأن السماء العلو يعتريها هذا كله، وسير الجبال هو في أول الأمر، ثم تتفتت أثناء السير حتى تصير آخرًا كالعهن المنفوش والفاء في قوله: {فويل} عاطفة جملة على جملة وهي تتضمن ربط المعنى وتأكيده وإثبات الويل للمكذبين.
والويل: السوء والمشقة والهم الأطول، ويروى أن في جهنم واديًا يسمى: ويلًا والخوض التخبط في الأباطيل، يشبه بخوض الماء، ومنه قوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} [الأنعام: 68] و: {يوم} الثاني بدل من: {يومئذ} و: {يدعون} قال ابن عباس معناه: يدفعون في أعناقهم بشدة وإهانة وتعتعة، ومنه قوله تعالى: {يدع اليتيم} [الماعون: 2] وفي الكلام محذوف مختصر تقديره: يقال لهم هذه النار، وإخبارهم بهذا على جهة التوبيخ والتقريع وقرأ أبو رجاء العطاردي: {يوم يدْعَون إلى نار جهنم} من الدعاء بسكون الدال وفتح العين.
{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)}.
لما قيل لهم هذه النار، وقفوا بعد ذلك على الجهتين التي يمكن منها دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثم سحر يلبس ذات المرء، وإما أن يكون في بصر النظر اختلال، وأمرهم بصليها على جهة التقريع، ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم: {اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم} أي عذابكم حتم، فسواء جزعكم وصبركم لابد من جزاء أعمالكم. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{والطور}.
الطُّورُ بالسُّريانية الجبلُ والمرادُ بهِ طورُ سينينَ وهُو جبلٌ بمدينَ سمعَ فيهِ مُوسى عليهِ السلام كلامَ الله تعالى {وكتاب مُّسْطُورٍ} مكتوبٍ على وَجْهِ الانتظامِ فإنَّ السطرَ ترتيبُ الحروفِ المكتوبةِ والمرادُ بهِ القرآن أوْ ألواحُ مُوسى عليهِ السلام وهُو الأنسبُ بالطُّورِ أو مَا يكتبُ في اللوحِ أو ما يكتبُهُ الحفظةُ {فِى رَقّ مَّنْشُورٍ} الرقُّ الجلدُ الذي يكتبُ فيه استعيرَ لما يكتبُ فيهِ الكتابُ منَ الصحيفةِ، وتنكيرُهُمَا للتفخيمِ أوْ للإشعارِ بأنَّهما ليسَا مما يتعارفُه النَّاسُ {والبيت المعمور} أي الكعبةِ وعمارتُها بالحُجَّاجِ والعُمَّارِ والمجاورينَ أو الضراحُ وهوَ في السماءِ الرابعةِ وعُمرانُه كثرةُ غاشيتِه منَ الملائكةِ {والسقف المرفوع} أي السماءِ ولاَ يَخفْى حسنُ موقعِ العُنوانِ المذكورِ {والبحر المسجور} أي المملوءِ وهُو البحرُ المحيطُ أو الموقدُ منْ قوله تعالى: {وَإِذَا البحار سُجّرَتْ} فالمرادُ بهِ الجنسُ رُوي أنَّ الله تعالى يجعلُ البحارَ يومَ القيامةِ نَارًا يسجرُ بَها نارَ جهنمَ.
{إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ} أَيْ لنازلٌ حَتْمًا جَوابٌ للقسمِ وَقوله تعالى: {مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} إِمَّا خبرٌ ثانٍ لأنَّ أَوْ صفةٌ لواقع وَمِنْ دافعٍ إمَّا مبتدأُ للظرفِ أوْ مرتفعٌ بهِ عَلى الفاعليةِ ومنْ مزيدةٌ للتأكيدِ. وتخصيصُ هذهِ الأمورِ بالإقسامِ بها لِمَا أنَّها أمُورٌ عظِامٌ تنبىءُ عنْ عِظمِ قدرةِ الله تعالى وكمالِ علمهِ وحكمتِه الدالَّةِ عَلى إحاطتِه تعالى بتفاصيلِ أعمالِ العبادِ وضبطِها الشاهدةِ بصدقِ أخبارِه التي مْن جُملتِها الجملةُ المقسمُ عَليها.
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْرًا} ظرفٌ لواقعٌ مبينٌ لكيفيةِ الوقوعِ منبىءٌ عنْ كمالِ هولِه وفظاعتِه، والمَوْرُ الاضطرابُ والترددُ في المجيءِ والذهابِ وقيلَ هُو تحركٌ في تموجٍ قيلَ تدورُ السماءُ كما تدورُ الرَّحَا وتتكّفأُ بأهلِها تكفؤَ السفينةِ وقيلَ تختلفُ أجزاؤُها {وَتَسِيرُ الجبال سَيْرًا} أيْ تزولُ عن وَجْه الأرضِ فتصيرُ هباءً، وتأكيدُ الفعلينِ بمصدريِهما للإيذانِ بغرابتهِما وخروجهِما عنِ الحدودِ المعهودةِ أيْ مورًا عجيبًا وسيرًا بديعًا لا يُدركُ كُنْهُهما.
{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} أيْ إذَا وقعَ ذلكَ أوْ إذَا كانَ الأمرُ كَما ذكرَ فويلٌ يومَ إذْ يقعُ ذلكَ لَهُم {الذين هُمْ في خَوْضٍ} أي اندفاعِ عجيبٍ في الأباطيلِ والأكاذيبِ {يَلْعَبُونَ} يلهوُن {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أيْ يدفعونَ إليَها دفعًا عنيفًا شديدًا بأَنْ تغلَّ أيديهمْ إلى أعناقِهم وتجمعَ نواصيهِم إلى أقدامِهم فيدُفعُوا إِلى النارِ وَقرئ {يُدْعَوْنَ} منَ الدُّعاءِ فيكونُ دعَّا حالًا بمَعْنى مدعوعينَ. ويومَ إمَّا بدلٌ منْ يومَ تمورُ أَوْ ظرفٌ لقول مقدرٍ قبلَ قوله تعالى: {هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} أيْ يُقال لَهُم ذلكَ ومَعنْى التكذيبِ بَها تكذيبُهم بالوحِي الناطقِ بَها وقوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هذا} توبيخٌ وتقريعٌ لَهُم حيثُ كانُوا يسمُّونَهُ سِحْرًا كأنَّه قيلَ كُنتم تقولونَ للقرآن الناطقِ بهذا سحرٌ فهَذا أَيْضًا سحرٌ. وتقديمُ الخبرِ لأنَّه محطُّ الإنكارِ ومدارُ التوبيخِ {أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} أيْ أَمْ أنتُم عُمْيٌ عنِ المُخبَر عَنْه كما كُنتم عميًا عن الخبرِ، أو أمْ سُدَّتْ أبصارُكم كما سُدَّتْ في الدُّنيا على زعمكِم حيثُ كُنْتم تقولونَ {إنَّما سكّرتْ أبصارُنَا بَلْ تحنُ قومٌ مسحورونَ} {اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} أي ادْخلُوهَا وقاسُوا شدائدَهَا فافعلُوا ما شئِتُم منَ الصَّبرِ وعدمِه {سَوَاء عَلَيْكُمْ} أي الأمرانِ في عدمِ النفعِ لاَ بدفعِ العذابِ ولا بتخفيفهِ وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليلٌ للاستواءِ فإنَّ الجزاءَ حيثُ كانَ واجبَ الوقوعِ حتمًا كان الصبرُ وعدمُه سواءً في عَدمِ النَّفعِ. اهـ.

.تفسير الآيات (17- 24):

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب المشار إليه بكلمات القسم، أتبعه ما لأضدادهم من الثواب المنبه عليه أيضًا بتلك الكلمات ليتم الخبر ترغيبًا وترهيبًا، فقال جوابًا لمن كأنه قال: فما لمن عاداهم فيك؟ مؤكدًا لما للكفار من التكذيب: {إن المتقين} أي الذين صارت التقوى لهم صفة راسخة {في جنات} أي بساتين دائمًا في الدنيا حكمًا وفي الآخرة.
ولما كانت البساتين ربما يشقى داخلها أو صاحبها، نفى هذا بقوله: {ونعيم} أي نعيم في العاجل، يعني بما هم فيه من الأنس، والآجل بالفعل، وزاد في تحقيق التنعم بقوله: {فاكهين} أي معجبين متلذذين {بما آتاهم ربهم} الذي تولى تربيتهم بعملهم بالطاعات إلى أن أوصلهم إلى ذهاب النعيم، فهو لأن عظمته من عظمته لا يبلغ كنه وصفه.
ولما كان المتنعم قد تكون نعمته بعد عذاب، فبين أنهم ليسوا كذلك فقال: {ووقاهم} أي قبل ذلك {ربهم} أي المتفضل بتربيتهم بكفهم عن المعاصي والقاذورات {عذاب الجحيم} أي النار الشديدة التوقد.
ولما كان من باشر النعمة وجانب النقمة في هناء عظيم، قال مترجمًا لذلك على تقدير القول: {كلوا} أي أكلًا هنيئًا {واشربوا} شربًا {هنيئًا} أي لا نقص فيه، وهو صفة في موضع المصدر أي هنأتم بمعنى أن كل ما تتناولونه مأمون العاقبة من التخمة والسقم ونحوها {بما كنتم} أي كونًا راسخًا {تعملون} أي مجددين له على سبيل الاستمرار حتى كأنه طبع لكم.
ولما كان النعيم لا يتم إلا بأن يكون الإنسان مخدومًا، نبه عليه بقوله: {متكئين} أي مستندين استناد راحة، لأنهم يخدمون فلا حاجة لهم إلى الحركة {على سرر مصفوفة} أي منصوبة واحدًا إلى جنب واحد، مستوية كأنها السطور على أحسن نظام وأبدعه، قال الأصبهاني: والصفة: مد الشيء على الولاء.
ولما كان السرور لا يتم إلا بالتنعم بالنساء قال: {وزوجناهم} أي تزويجًا يليق بما لنا من العظمة.
ولما كانت تلك الدار غنية عن الأسباب، فكانوا غنيين عن العقد، قال مشيرًا بالباء إلى صرف الفعل عن ظاهره فإنه إذا كان بمعنى النكاح تعدى بنفسه، وتضمين الفعل قرناهم أي جعلناهم أزواجًا مقرونين {بحور} أي نساء هن في شدة بياض العين وشدة سوادها واستدارة حدقتها ورقة جفونها في غاية لا توصف {عين} أي واسعات الأعين في رونق وحسن.
ولما وصف حال المتقين من أعداء المكذبين وبدأ بهم لشرفهم، أتبعهم من هو أدنى منهم حالًا لتكون النعمة تامة فقال: {والذين آمنوا} يعني أقروا بالإيمان ولم يبدلوا ولا بالغوا في الأعمال الصالحة.
ولما كان من هؤلاء من لا يتبعه ذريته بسبب إيمانه لأنه يرتد عنه، عطف على فعلهم تمييزًا لهم واحترازًا عمن لم يثبت قوله: {واتّبعتهم} أي بما لنا من الفضل الناشىء عما لنا من العظمة {ذرياتهم} الصغار والكبار وإن كثروا، والقرار لأعينهم بالكبار بايمانهم والصغار بإيمانهم آبائهم {بإيمان} أي بسب إيمان حاصل منهم، ولو كان في أدنى درجات الإيمان، ولكنهم ثبتوا عليه إلى أن ماتوا، وذلك هو شرط إتباعهم الذريات، ويجوز أن يراد وهو أقرب: بسبب إيمان الذرية حقيقة إن كانوا كبارًا، وحكمًا إن كانوا صغارًا، ثم أخبر عن الموصول بقوله: {ألحقنا بهم} أي فضلنا لأجل عمل آبائهم {ذرياتهم} وإن لم يكن للذرية أعمال، لأنه قيل في المعنى: